فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقول مالك يومًا وليلة راجع إلى اليوم التام، لأنه لم يُرِد بقوله: مسيرة يوم وليلة أن يسير النهار كله والليل كله، وإنما أراد أن يسير سيرًا يبيت فيه بعيدًا عن أهله ولا يمكنه الرجوع إليهم.
وفي البخاري: وكان ابن عمر وابن عباس يُفطران ويَقصران في أربعة برد، وهي ستة عشر فرسخًا، وهذا مذهب مالك.
وقال الشافعيّ والطبريّ: ستة وأربعون مِيلًا.
وعن مالك في العتبية فيمن خرج إلى ضَيعته على خمسة وأربعين مِيلًا قال: يقصر، وهو أمر متقارب.
وعن مالك في الكتب المنثورة: أنه يقصر في ستة وثلاثين مِيلًا، وهي تقرب من يوم وليلة.
وقال يحيى بن عمر: يعيد أبدًا!.
ابن عبد الحكم: في الوقت!.
وقال الكوفيون: لا يقصر في أقل من مسيرة ثلاثة أيام؛ وهو قول عثمان وابن مسعود وحذيفة.
وفي صحيح البخاريّ عن ابن عمر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «لا تسافر المرأة ثلاثة أيام إلا مع ذي مَحْرَم» قال أبو حنيفة: ثلاثة أيام ولياليها بسير الإبل ومشي الأقدام.
وقال الحسن والزّهْرِي: تقصر الصلاة في مسيرة يومين؛ وروي هذا القول عن مالك، ورواه أبو سعيد الخُدْرِي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تسافر المرأة مسيرة ليلتين إلا مع زوج أو ذي مَحْرَم» وقصَر ابن عمر في ثلاثين مِيلًا، وأنس في خمسة عشر ميلًا.
وقال الأُوزاعيّ: عامة العلماء في القصر على اليوم التام، وبه نأخذ.
قال أبو عمر: اضطربت الآثار المرفوعة في هذا الباب كما ترى في ألفاظها؛ ومَجْمَلُها عندي والله أعلم أنها خرجت على أجوبة السائلين، فحدّث كل واحد بمعنى ما سمع، كأنه قيل له صلى الله عليه وسلم في وقت ما: هل تسافر المرأة مسيرةَ يوم بغير مَحْرَم؟ فقال: لا.
وقيل له في وقت آخر: هل تسافر المرأة يومين بغير محرم؟ فقال: لا.
وقال له آخر: هل تسافر المرأة مسيرة ثلاثة أيام بغير مَحْرَم؟ فقال: لا.
وكذلك معنى الليلة والبريد على ما رُوي، فأدّى كل واحد ما سمع على المعنى، والله أعلم.
ويجمع معاني الآثار في هذا الباب وإن اختلفت ظواهرها الحظرُ على المرأة أن تسافر سفرًا يخاف عليها فيه الفتنة بغير مَحْرَم، قصيرًا كان أو طويلًا. والله أعلم.
واختلفوا في نوع السفر الذي تُقصر فيه الصلاة، فأجمع الناس على الجهاد والحج والعُمرة وما ضارعها من صلة رَحِم وإحياء نفس.
واختلفوا فيما سوى ذلك، فالجمهور على جواز القصر في السفر المباح كالتجارة ونحوها.
ورُوي عن ابن مسعود أنه قال: لا تقصر الصلاة إلا في حج أو جهاد.
وقال عطاء: لا تقصر إلا في سفر طاعةٍ وسبيل من سبل الخير.
وروي عنه أيضًا: تقصر في كل السفر المباح مثل قول الجمهور.
وقال مالك: إن خرج للصيد لا لمعاشه ولكن متنزهًا، أو خرج لمشاهدة بلدة متنزهًا ومتلذذًا لم يقصر.
والجمهور من العلماء على أنه لا قصر في سفر المعصية؛ كالباغي وقاطع الطريق وما في معناهما.
ورُوي عن أبي حنيفة والأُوزاعيّ إباحة القصر في جميع ذلك، ورُوي عن مالك.
وقد تقدّم في البقرة واختلف عن أحمد، فمرة قال بقول الجمهور، ومرة قال: لا يقصر إلا في حج أو عمرة.
والصحيح ما قاله الجمهور، لأن القصر إنما شُرع تخفيفًا عن المسافر للمشقات اللاحقة فيه، ومعونته على ما هو بصدده مما يجوز، وكل الأسفار في ذلك سواء؛ لقوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرض فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} أي إثم {أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة} فعمّ.
وقال عليه السلام: «خير عباد الله الذين إذا سافروا قصروا وأفطروا» وقال الشعبيّ: إن الله يحب أن يعمل برُخَصه كما يحب أن يعمل بعزائمه.
وأما سفر المعصية فلا يجوز القصر فيه؛ لأن ذلك يكون عونًا له على معصية الله، والله تعالى يقول:
{وَتَعَاوَنُواْ عَلَى البر والتقوى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإثم والعدوان} [المائدة: 2].
الرابعة واختلفوا متى يقصر، فالجمهور على أن المسافر لا يقصر حتى يخرج من بيوت القرية، وحينئذٍ هو ضارب في الأرض، وهو قول مالك في المدوّنة.
ولم يَحُدّ مالك في القرب حدّا.
ورُوي عنه إذا كانت قرية تجمع أهلها فلا يقصر أهلها حتى يجاوزوها بثلاثة أميال، وإلى ذلك في الرجوع.
وإن كانت لا تجمع أهلها قصروا إذا جاوزوا بساتينها.
ورُوي عن الحارث بن أبي ربيعة أنه أراد سفرًا فصلّى بهم ركعتين في منزله، وفيهم الأسود بن يزيد وغير واحد من أصحاب ابن مسعود، وبه قال عطاء بن أبي رَباح وسليمان بن موسى.
قلت: ويكون معنى الآية على هذا: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرض} أي إذا عزمتم على الضرب في الأرض. والله أعلم.
وروي عن مجاهد أنه قال: لا يقصر المسافر يومه الأول حتى الليل.
وهذا شاذ؛ وقد ثبت من حديث أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلَّى الظهر بالمدينة أربعًا وصلَّى العصر بذي الحُلَيفة ركعتين.
أخرجه الأئمة، وبين ذي الحُليفة والمدينة نحوٌ من ستة أميال أو سبعة.
وعلى المسافر أن ينوِي القصر من حين الإحرام؛ فإن افتتح الصلاة بنية القصر ثم عزم على المُقام في أثناء صلاته جعلها نافلة، وإن كان ذلك بعد أن صلّى منها ركعة أضاف إليها أُخرى وسلّم، ثم صلّى صلاة مقيم.
قال الأَبْهَرِيّ وابن الجلاب: هذا والله أعلم استحباب، ولو بنى على صلاته وأتمها أجزأته صلاته.
قال أبو عمر: هو عندي كما قالا؛ لأنها ظُهر، سفرية كانت أو حضرية وكذلك سائر الصلوات الخمس.
واختلف العلماء من هذا الباب في مدّة الإقامة التي إذا نواها المسافر أتمّ؛ فقال مالك والشافعيّ واللّيث بن سعد والطبريّ وأبو ثور: إذا نوى الإقامة أربعة أيام أتمّ؛ ورُوي عن سعيد بن المُسَيِّب.
وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوريّ: إذا نوى إقامة خمس عشرة ليلة أتمّ، وإن كان أقل قصر.
وهو قول ابن عمر وابن عباس ولا مخالف لهما من الصحابة فيما ذكر الطحاوي، ورُوي عن سعيد أيضًا.
وقال أحمد: إذا جمع المسافر مقام إحدى وعشرين صلاة مكتوبة قصر، وإن زاد على ذلك أتم، وبه قال داود.
والصحيح ما قاله مالك، لحديث ابن الحَضْرَميّ: عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه جعل للمهاجر أن يقيم بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثة أيام ثم يُصدر.
أخرجه الطحاوي وابن ماجه وغيرهما.
ومعلوم أن الهجرة إذْ كانت مفروضة قبل الفتح كان المقام بمكة لا يجوز؛ فجعل النبيّ صلى الله عليه وسلم للمهاجر ثلاثة أيام لتقضية حوائجه وتهيئة أسبابه، ولم يحكم لها بحكم المقام ولا في حيّز الإقامة، وأبقى عليه فيها حكم المسافر، ومنعه من مقام الرابع، فحكم له بحكم الحاضر القاطن؛ فكان ذلك أصلًا معتمَدًا عليه.
ومثله ما فعله عمر رضي الله عنه حين أجلى اليهود لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فجعل لهم مقام ثلاثة أيام في قضاء أُمورهم.
قال ابن العربيّ: وسمعت بعض أحبار المالكية يقول: إنما كانت الثلاثة الأيام خارجة عن حكم الإقامة؛ لأن الله تعالى أرجأ فيها من أنزل به العذاب وتيقّن الخروج عن الدنيا؛ فقال تعالى: {تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذلك وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هود: 65].
وفي المسألة قول غير هذه الأقوال، وهو أن المسافر يقصر أبدًا حتى يرجع إلى وطنه، أو ينزل وطنًا له.
روي عن أنس أنه أقام سنتين بنَيْسابور يقصر الصلاة.
وقال أبو مِجلز: قلت لابن عمر: إني آتي المدينةَ فأُقيم بها السبعة أشهر والثمانية طالبًا حاجة؛ فقال: صلّ ركعتين.
وقال أبو إسحاق السّبِيعي: أقمنا بسجِستان ومعنا رجال من أصحاب ابن مسعود سنتين نُصلّي ركعتين.
وأقام ابن عمر بأَذْربِيجان يصلّي ركعتين ركعتين؛ وكان الثلج حال بينهم وبين القُفُول: قال أبو عمر: محمل هذه الأحاديث عندنا على أن لا نية لواحد من هؤلاء المقيمين هذه المدّة؛ وإنما مثل ذلك أن يقول: أخرج اليوم، أخرج غدًا؛ وإذا كان هكذا فلا عزيمة هاهنا على الإقامة. اهـ. بتصرف يسير.

.قال الفخر:

زعم داود وأهل الظاهر أن جواز القصر مخصوص بحال الخوف.
واحتجوا بأنه تعالى أثبت هذا الحكم مشروطًا بالخوف، وهو قوله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كَفَرُواْ} والمشروط بالشيء عدم عند عدم ذلك الشرط، فوجب أن لا يحصل جواز القصر عند الأمن.
قالوا: ولا يجوز رفع هذا الشرط بخبر من أخبار الآحاد، لأنه يقتضي نسخ القرآن بخبر الواحد وإنه لا يجوز، ولقد صعب هذا الكلام على قوله ذكروا فيه وجوهًا متكلفة في الآية ليتخلصوا عن هذا الكلام.
وعندي أنه ليس في هذا غموض، وذلك لأنا بينا في تفسير قوله تعالى: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ} [النساء: 31] أن كلمة (إن) وكلمة (إذا) يفيدان أن عند حصول الشرط يحصل المشروط، ولا يفيدان أن عند عدم الشرط يلزم عدم المشروط، واستدللنا على صحة هذا الكلام بآيات كثيرة، وإذا ثبت هذا فنقول: قوله تعالى: {إِنْ خِفْتُمْ} يقتضي أن عند حصول الخوف تحصل الرخصة، ويقتضي أن عند عدم الخوف لا تحصل الرخصة، وإذا كان كذلك كانت الآية ساكتة عن حال الأمن بالنفي وبالإثبات، وإثبات الرخصة حال الأمن بخبر الواحد يكون إثباتًا لحكم سكت عنه القرآن بخبر الواحد، وذلك غير ممتنع، إنما الممتنع إثبات الحكم بخبر الواحد على خلاف ما دلّ عليه القرآن، ونحن لا نقول به.
فإن قيل: فعلى هذا لما كان هذا الحكم ثابتًا حال الأمن وحال الخوف، فما الفائدة في تقييده بحال الخوف؟
قلنا: إن الآية نزلت في غالب أسفار النبي صلى الله عليه وسلم، وأكثرها لم يخل عن خوف العدو، فذكر الله هذا الشرط من حيث أنه هو الأغلب في الوقوع، ومن الناس من أجاب عنه بأن القصر المذكور في الآية المراد منه الاكتفاء بالإيماء والإشارة بدلًا عن الركوع والسجود، وذلك هو الصلاة حال شدة الخوف، ولا شك أن هذه الصلاة مخصوصة بحال الخوف، فإن وقت الأمن لا يجوز الإتيان بهذه الصلاة، ولا تكون محرمة ولا صحيحة، والله أعلم.
ثم يقال لأهل الظاهر: إن ظاهر هذه الآية يقتضي أن لا يجوز القصر إلا عند حصول الخوف الحاصل من فتنة الكفار، وأما لو حصل الخوف بسبب آخر وجب أن لا يجوز القصر، فإن التزموا ذلك سلموا من الطعن، إلا أنه بعيد، وإن لم يلتزموه توجه النقض عليهم، لأنه تعالى قال: {إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كَفَرُواْ} وذلك يقتضي أن الشرط هو هذا الخوف المخصوص، ولهم أن يقولوا: إما أن يقال: حصل إجماع الصحابة والأمة على أن مطلق الخوف كاف، أو لم يحصل الإجماع، فإن حصل الإجماع فنقول: خالفنا ظاهر القرآن بدلالة الإجماع، وهو دليل قاطع فلم تجز مخالفته بدليل ظني، وإن لم يحصل الإجماع فقد زال السؤال، لأنا نلتزم أنه لا يجوز القصر إلا مع هذا الخوف المخصوص، والله أعلم. اهـ.